صورة الاسلام.. إعادة تنميط الوعي
الهيمنة الغربية على وسائل الإتصال المرئي أطلقت شرارة الحرب الباردة الثانية، حين عقد خبراء ومتخصصون من دول حلف شمال الأطلسي في فبراير العام 1992 مؤتمراً في مدينة ميونيخ الألمانية، لمناقشة السياسة الأمنية لحلف شمال الأطلسي، وكانت كلمات المشاركين تتجه في مسارها العام نحو وضع «الأصولية الاسلامية» خصماً بديلاً عن الشيوعية.
وقد نبّه المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والامبريالية» الى أن إصرار الإعلام الغربي على الإشارة للمسملين بالأصولية وما شابهها، يقصد منه تشويه صورتهم، لارتباط الأصولية بالإرهاب في العقل الغربي.
في بداية الحملة الاعلامية على الاسلام، نتذكر ما قامت به مجلة «نيويوركر» في منتصف عام 1993 حين رسمت على غلافها الخارجي صورة العربي المتوحش في هيئة طفل يقفز على بيوت لأطفال بنيت من الرمل على ساحل البحر لتدميرها، أو صورة فيلم علاء الدين الذي أنتجته شركة والت ديزني وعرضته السينما الاميركية والاوروبية عام 1993 ويصوّر فيه العرب والمسلمين بالقساة، والحفاة يعيشون خارج الحضارة.
يذكر إدوارد سعيد بأن شركة إديسون المتحدة بنيويورك «شركة كون إيد» حين أرادت أن تقنع الأميركيين بضرورة توفير مصادر بديلة للطاقة، أذاعت إعلاناً تلفزيونياً مثيراً في صيف 1980، يتضمن لقطات متحركة قديمة لبعض الشخصيات المعروفة في منظمة البلدان المصدرة للنفط «أوبك» مثل الدكتور أحمد زكي يماني، والعقيد معمر القذافي، وبعض الشخصيات العربية التي تلبس الزي العربي، وإن تكن أقل شهرة ويمزج بينها، بالتناوب، وبين بعض اللقطات الثابتة الأخرى، إلى جانب لقطات لشخصيات أخرى ارتبطت أسماؤها بالنفط والإسلام مثل الخميني، وعرفات، وحافظ الأسد. ولم يشر الإعلان إلى أي من هذه الشخصيات بأسمائها، ولكن المذيع قال بصوت المنذر المحذّر إن "هؤلاء الرجال" يتحكمون في مصادر النفط الأميركية. ويعلق سعيد «وكان يكفي أن يظهر هؤلاء الرجال على النحو الذي ظهروا به في الصحف والتلفزيون حتى يعتري الأميركيين مزيج من مشاعر الغضب والاستياء والخوف»[42] .
وفي ندوة دولية حول الصورة العربية في وسائل الاعلام الغربية في الفترة ما بين 22 24 سبتمبر 1993، بدا أن ثمة معادلة إستعمارية ثاوية في تلك الصورة، فقد تحوّلت الكرنفالية الصورية في عاصفة الصحراء عام 1991 الى مواجهة حضارية بين الغرب والشرق، وهكذا نظر إليها الغربيون، ومن تلك العاصفة تمخّض النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة. وفجأة، وجد الإسلام نفسه قريناً للإرهاب، والتخلف، والإنقلاب، والتوتاليتارية، وطبائع العصور الوسطى، وعلى وجه السرعة تم استبدال الخطر الأحمر بالخطر الأخضر، وشعار المنجل والمطرقة تعبيراً عن الكره والعداء والمواجهة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي، ليحل مكانه الهلال والشرق الإسلامي[43] .
وقد رصد الدكتور جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الاميركي في وشانطن عدة مقالات وكاريكاتيرات حول حادث تفجير مركز التجارة الدولي في نيويورك في فبراير 1993، جمعها من مجلات مثل «نيو ريببلك» وصحف مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك بوست»، وتوصّل من خلال قراءتها الى أفكار مشتركة، من بينها أن الاتهامات الواردة في مثل هذه المقالات «لا تقتصر على معاملة المتّهمين وكأنهم مذنبون أصلاً، بل إن هذا التجريم يمتد ليشمل الحركة التي ينتمون والدين الذين يعتنقون». وربما كان الخبير الفرنسي في الشؤون الاسلامية جيل كبيل أقدر على تفسير هذه الظاهرة بقوله «خلال مواجهة العالم الغربي للشيوعية، كان الهجوم يطال الحكومات ويتفادى الهجوم على الشعوب، أما فيما يرتبط بالإسلام، فإن الهجوم موجّه للدين الذي تؤمن به الجماهير»[44] . فقد تحوّل العداء للإسلام جزءً من ثقافة الصورة في الغرب في الوقت الراهن، حيث تتنكب الكراهية من الكلمة الى الصورة دون تغيير في حدّتها، فصورة العربي والمسلم المقترنة بمفهوم «الأصولي» شحنت بأقصى طاقة عدائية، ولذلك نجد أن من يتكفّل بنقل صورة الاسلام للأميركيين والاوروبيين بصورة عامة هي شبكات التلفزيون والرادو والصحف والمجلات والسينما، فيما تشكل الصورة التلفزيونية أكثر واقعية من الواقع نفسه حسب قول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار.
بكلمات أخرى، كان الرأي العام الغربي بحاجة الى صورة تكسو الفكرة النمطية عن الإسلام، كما غرستها وسائل الاتصال الجماهيرية في الغرب، فالصورة تتيح رؤية الإسلام واقعاً مجسّداً، ولكنها رؤية مستمدة من صور يخيّل للغربي أنها هي الواقع الفعلي للإسلام، ولذلك يبقى الأخير ضلالاً، ولا عقلانياً، وإرهاباً، لا يفرّق فيه بين المعتدل والمتطرف، فالكل سواء في الصورة النمطية عن الاسلام. لا غرابة، حين يحجب صانع الصورة في الغرب وجه الضحية حين يكون عربياً ومسلماً، ويشعل ضوءً كثيفاً على الضحيّة الافتراضية، جندياً، أو جاسوساً، أو مهرّباً قدم من خلف المحيطات البعيدة.
خلاصة
الصورة، في اختطاف الزمن وإلغائه عبر السكون النهائي فيه، حققت إنتشاراً زمكانياً، بحيث تصبح الصورة إنبلاجاً كونياً، بمعنى أنها جعلت المجال الثقافي الانساني خاضعاً تحت تأثير سلطتها المطلقة العابرة للحدود، فليس هناك منطقة مستقلة خارج هذا المجال، فالصورة تخترق كل أجزائه.. هذه الصورة التي باتت محتكرة بدرجة كبيرة من قبل مؤسسات ذات أحجام إتصالية كونية وتهيمن على الثقافة الإنسانية تستعمل في الوقت نفسه لتبرير الحروب، وتصدير القيم الغربية، وإخضاع العالم إلى نمطية ثقافية موحّدة، تنسجم مع النزعة الاستهلاكية والارتهان الحضاري للغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة.
وليس ثمة شك، أن للصورة سطوة الحضور في هذا السجال، وتكاد تنفرد بهذه الخصوصية. فالتقنية المتنامية للصورة وهبتها قدرة توليد المخيال، حيث يتم تعطيل طاقة المشاهد في استنباط وتحفيز الطاقة الابداعية في وعي الصورة النابع من إحساسه بجمالية الصورة المنطوية على محرّضات لتصعيد المخيال.
فيما مضى، كان الاشتغال منصباً على البحث عن صورة لحادثة واقعة، ولكن التكنولوجيا الإتصالية قلبت المعادلة فأصبحت الصورة صانعة للخبر، بل باتت ثرية في مفرداتها غير الملفوظة. فصانعو الصورة أرادوها متجاوزه للحد الأنطولوجي، المنحبس في توثيق وتوصيف لحظة تاريخية بمكوّنيها الرئيسيين الزماني والمكاني، فأحالوها خطاباً مفعماً بدلالات ثقافية مضطردة. فلم تعد الصورة قطعة بصرية مجردة، فهي تقع خارج المجال الزمكاني للصورة، وتنفتح على أبعاد أخرى ثقافية وسياسية وإجتماعية، تحتشد لمهمة تشكيل الوعي. بهذا التشويه للوجه الجمالي للصورة، يتم استدماج الخيال بالواقع كنزوع متعمّد للتسلل إلى مركز الوعي للعبث بمكوّناته، وتخليق ذاكرة ثقافية جديدة تستمد قوتها من سلسلة الإندماجات المتدفقة بلا انقطاع من الصور المتخمة بدلالات ورموز مموّهة. فالصورة أصبحت كبسولة دلالات ثقافية تتفتق دفعة واحدة، بخلاف الكتابة التي تبث دلالاتها على امتداد النص. فالصورة تبطن حزمة أفكار غرسها صانعها كيما تتهرب الى ذاكرتنا عبر الصورة. صحيح أن الكلمة تمثّل، من الناحية النظرية، دعامة للصورة وشارحاً لها، ولكن الحقيقة أن الصورة أملت حكمها على الكلمة وتحوّلت الى مصنّع للكلمات. إن الصورة بوصفها تجليّاً إفتراضياً للحقيقة تخفي هوية صانعها وأجندته، فقد أراد منها أداة لصنع الواقع المتخيّل الافتراضي وليس الواقعي، وهذا ما يسلب عنها صفة الحيادية.
وكلمة أخيرة: إن أسوأ ما اقترفته الصورة جنوحها المتعمّد الى تسليع وتزوير هوية الثقافة في عملية تحوير لدورها التوعوي، ما جعلها قاصرة عن ممارسة دور التغيير والإصلاح.
* ورقة بحثية ألقيت في مؤتمر فيلادلفيا الدولي الثاني عشر«ثقافة الصورة» في جامعة فيلادلفيا الأردنية في الفترة ما بين 26-24 نيسان «إبريل» 2007 [1] لويس دولّلو، الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، ترجمة خير الدين عبد الصمد، دمشق 1993، ص67
[2] مارتان هيدجر، الفلسفة في مواجهة العلم والتقنيّة، ترجمة د. فاطمة الجيوشي، دمشق 1998، ص ص 34، 87
[3] ادغار موران، مقدّمات للخروج من القرن العشرين، ترجمة أنطوان حمصي، دمشق 1993، ص 38
[4] المناظرات السياسية.. هل تحدد رئيس أميركا القادم؟ أنظر:
http://arabic. cnn. com/2004/us. elections/10/25/us. elections/index. html
[5] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى،.. وجيز القرن العشرين 1914 1991، ترجمة هشام الدجاني، دمشق 1998 الجزء الثالث الانهيار، ص 139
[6] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى، الجزء الثالث الانهيار، مصدر سابق ص 140
[7] عندما تغتال البراءة، الشبكة الاسلامية بتاريخ 25/09/2005 أنظر:
http://www. islamweb. net/ver2/archive/readArt. php?lang=A&id=99197
[8] Winston Fletcher، Advertising، Advertising، «Profile Books Ltd. ، 1999»، p. 5
[9] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى، الجزء الثالث الانهيار، مصدر سابق ص 140
[10] آلان تورين، نقد الحداثة.. الحداثة المظفّرة، القسم الأول، ترجمة صيّاح الجهيم، دمشق 1998، ص 192
[11] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى، الجزء الثالث الانهيار، مصدر سابق ص 140 141
[12] تويس دولّلو، الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، مصدر سابق، ص ص 138 139
[13] جياني فاتيمو، نهاية الحداثة.. الفلسفات العدميّة والتفسيرية في ثقافة مابعد الحداثة «1987»، ترجمة. فاطمة الجيّوشي، دمشق 1998، ص 63
[14] أدغار موران، مقدّمات للخروج من القرن العشرين،مصدر سابق، ص 50
[15] جياني فاتيمو، نهاية الحداثة.. مصدر سابق ص 65
[16] http://www. elaph. com/ElaphWeb/Interview/2006/4/139475. htm
[17] صحيفة الحياة اللندنية، 21 / 9 / 2006م
[18] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى، الجزء الثالث الانهيار، مصدر سابق ص 140
[19] Tom Baistow «1985»، FOURTHRATE ESTATE، Comedia Publishing Group، pp. 1-3
[20] غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة وتقديم هاشم صالح، دار الساقي لندن، 1991، ص 67
[21] شريف حمود، الفيديو كليب.. ديكتاتورية الصورة تغتال النغم، بتاريخ 4/2/2003، أنظر
http://www. islamonline. net/arabic/arts/2003/02/article02. shtml
[22] http://www. un. org/arabic/esa/rbas/ahdr2003/contents. htm
[23] ديفيد. إس برودر، وراء الصفحة الاولى.. نظرة صريحة على صناعة الخبر، مركز الكتب الأردني 1990 ص 14
[24] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى.. وجيز القرن العشرين 1914 1991، الجزء الثالث مصدر سابق ص 127
[25] See: The Time، December 20، 1968
[26] د. وديع العزعزي، القنوات الفضائية في عصر العولمة، وزارة الثقافة والسياحة 2004، صنعاء، المقدمة ص 3
[27] ديفيد. إس برودر، وراء الصفحة الاولى.. نظرة صريحة على صناعة الخبر، مصدر سابق، ص 190
[28] Ronald Berman «1987»، How Television Sets Its Audience، Sage، p. 55
[29] جياني فاتيمو، نهاية الحداثة، مصدر سابق ص 67
[30] ايريك هوبزباوم، عصر النهايات القصوى وجيز القرن العشرين «1914 -1991»، ترجمة هشام الدجاني، دمشق، 1997، الجزء الثاني العصر الذهبي، ص ص 127 -128
[31] آلان تورين، نقد الحداثة.. الحداثة المظفّرة، مصدر سابق ص 233
[32] ه-. شيلر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة الكويت، 1986، ص 65 وأنظر أيضاً:
J. William Fulbright «1970»، The Pentagon Propaganda Machine، New York، p. 46ff
[33] Research on the Effects of Media Violence; see:
http://www. media-awareness. ca/english/issues/violence/effects_media_violence. cfm
[34] ibdi
[35] Brad J. Bushman and Craig A. Anderson، Media Violence and The American Public، American Psychologist، June/July 2001، p. 478
[36] See: "Media Violence،" AAP Committee on Communications، in Pediatrics، Vol. 95، No. 6، June 1995.
"Suggestions for Parents: Children Can Unlearn Violence،" in the Center for Media and Values «now the Center for Media Literacy» Media and Values، No. 62، 1993، "Media and Violence: Part One: Making the Connections. "
[37] هربرت أ. شيلر، المتلاعبون بالعقول، مصدر سابق، ص 211
[38] Daily Telegraph، 12 August 1993، by Graham Lord
[39] آلان تورين، نقد الحداثة.. الحداثة المظفّرة مصدر سابق، ص 188
[40] Michael Medved «1992»، Hollywood Vs America.. Popular Culture and the War on Traditional Values، HarperCollins p. 3
[41] المصدر السباق، ص 4 ومابعدها
[42] إدوارد سعيد، تغطية الاسلام، ترجمة:د. محمد عنانى، القاهرة 2005 ص ص 68 69
[43] محمود اللبدي، الشرق الاوسط بتاريخ 5/8/1993
[44] صحيفة لوموند بتاريخ 16/2/1993