قراءة نقدية في الفكر المتشدد «1»
الشيخ جعفر الداوود - 17 / 4 / 2008م - 8:16 م
أجمعت الأديان السماوية على حرمة العنف ونبذ الارهاب بكل أشكاله وأنماطه، ودعت الى صون واحترام كيان الانسان في جانبه المادي..ممتلكاته وأمواله، وفي جانبه المعنوي.. شخصيته واعتباره.
وحرمة العنف تنبثق من تغايره مع أصول الفطرة الانسانية التي فطرها الله وقوّمها على حب الخيرونفع الغير، ولعدم تجانسه والضمير الانساني الذي يدعو الى افشاء الرحمة واشاعة المودة في وسط الكيان البشري بتعدد مشاربه ومذاهبه، وأيضا لا يتحد مع تعاليم الشريعة الاسلامية السمحاء التي تدعو الى الرفق والمحبة، وتدفع نحو تأصيل قيم الاحترام والتقدير لدى الافراد والمجتمعات لتقوى اواصر الترابط والتلاحم.
فالاسلام يرى المسلمين جميعا بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعا بالاخوان والاخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار بل في العمل والتعهدات المتماثلة ايضا.
وفي الروايات الاسلامية تأكيد على هذه المسألة ايضا ولاسيما في مايخص الجوانب العملية، ونحن هنا على سبيل المثال نورد بعضا من الاحاديث التالية:
- ورد عن النبي
قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه.
- وعنه
قال: مثل الاخوين مثل اليدين تغسل احداهما الآخر.
- وعن الامام الصادق
قال: المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد اذا اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة.
- وعنه ايضا
قال: «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه»
[1] ومن جهة اخرى تنهى تعاليم الشريعة نهيا مغلظا عن كل أفة تؤدي الى التفريق والتشتيت او تكون سببا للتنافر والتباعد، فورد النهي لئلا نقع في مغبات الأفات المدمّرة للكيان الاجتماعي المترابط برباط الاخوة والمحبة، وحيث أنها تصيّر المجتمع الواحد الى شيع وأجزاء متناثرة.. يسوده الاضطراب وتغلب عليه الاحن والاحقاد.. قال تعالى
﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ • أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾[2] فنهانا ربنا عزوجل عن مفردات وعناوين عديدة من رذائل الاخلاق وعلامات جلية من الانحطاط النفسي والاخلاقي لكونها تشكّل خطرا حقيقيا على وحدة وسلامة البناء الاجتماعي المقدّس وتهديدا سافرا للأمن الاجتماعي، وهذا خلاف ما اراده الاسلام، فالاسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق واستقرار تام، لا ان يضرب بعضهم البعض الآخر.
إقصاء الآخر• صورة اخرى من صور العنف والارهاب وهو طريق يسلك بصاحبه الى الارتماء في دائرة العنف الجسدي والذي هوافراز سلبي من افرازات الاقصاء ونفي الآخر، ولا فرق في خطورة الصورتين من العنف.. فاذا كان العنف الجسدي يستهدف الارواح والممتلكات والاموال، فان العنف المعنوي يستهدف الشخصية والاعتبار ويجرد الانسان من كل قيمة اقرّها الاسلام له.
• وتكمن الخطورة البالغة في هذا المورد عندما يظن الانسان وبتزيين من الشيطان أنه القمة في الالتزام وفي العلم والعمل وسائر الناس دونه، وهكذا تتسع دائرة الافكار السلبية لتأحذ منحى آخر في الاقصاء والتسقيط حتى تتحول الى مواقف وادوار يتحرك من خلالها العنف كاللجوء الى التكفير والى بث ونشر الفتاوى التي من شأنها أن تحرض على التصفية والابادة الجسدية، وتبدأ سهام التخوين والتجريم منصبة على ساحة من يغايروه في الرأي ويخالفوه في الموقف او المذهب، والانكى من ذلك أن كل محاولات الاقصاء والتهميش والازدراء والتكفير تكون باسم الدين والعقيدة لا باسم الفرد او الفئة.
انّ ادعاء الافضلية هو توهم نفسي مجرد من العقل والمنطق، ذلك لأن منشأ الفكرة انبثقت من ابليس فهو أول مخلوق اصّل هذه النظرية المقيته «ادعاء الأفضلية» وأركزها في أذهان الجهال من افراد الامة، قال تعالى
﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾[3] ، فكان ابليس يظن أنّ عنصر النار افضل من عنصر الطين، وهو توهم زائف «لأن التراب ليس بأدنى من النار، وانما أفضل منها بكثير، لأن كل الحياة أصلها من التراب»
[4] .
اذن هو توهم نابع من غروره وتكبره وهي رذائل كانت سببا حقيقيا لسقوطه الى درك الحضيض.
ان هذا الشعار (الشيطاني) تبنته فئات في التاريخ الانساني وزعموا أنهم الأفضل في الخلق، فاليهود ادّعوا أنهم شعب الله المختار، وأنهم المقربون عنده، ثمّ تسللت هذه الفكرة الى ساحتنا الاسلامية، واتسعت دوائرها.. فغدت من أكبر النكبات التي حاقت بالفكر وهي ظاهرة التشدد والتطرف.. وهي الظاهرة التي تصطدم ومفردات القوانين الطبيعية والانسانية. «لأنها تعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على التوازن ويقوم الكون على التوازن، فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم الحد الحرج تقود الى توقف القلب بالاسترخاءأو الانقباض، وزيادة النحاس في الجسم يقود الى تشمع الكبد بمرض ويلسون، والكهرباء جيدة عندما ترفع الثقل في المصاعد، ولكنها قاتلة اذا نزلت من السماء على شكل صاعقة، وأفضل حالة للطاقة هي أن لاتجمد، والماء جيد اذا حبس خلف السد، وهو مدمراذا جاء على شكل طوفان»
[5] .
خطر الثقافة الصداميةلقد أسفرت هذه الثقافة عن افراز مواقف واحداث بالغة الخطورة عانى منها قبل غيرهم، فاطلاق فتاوى التكفير المنطلقة من تراكمات جاهلية وانفعالات نفسية بلهاء..ادّى الى زعزعة الامن الاجتماعي، كما أنها رسمت صورة قاتمة مشوّهة عن الاسلام والمسلمين في اذهان الغربيين وغيرهم، وغدا العالم الغربي بدوله وشعوبه لا يفرق بين مسلم واع وبين مسلم جاهل ينسب الى الاسلام بالقول لا بالفعل، وهذا الانطباع السلبي الذي خلفته ثقافة التشدد، استفادت منه القوى المعادية لخط الاسلام..فغدت تنشر وتبث ثقافة البغض والكراهية ازاء العرب والمسلمين، وجعلتهم في خانة القتلة التواقين للدماء وازهاق الارواح، وقد لعب الاعلام الغربي بوسائله المتعدده دورا كبيرا في تاصيل هذه الفكرة في أذهان الشارع الغربي..مما ادّى الى تفاقم الأزمة مع المسلمين، وتحميلهم مسؤولية كل ماحلّ بهم من أزمات وأحداث.
تبعثر الجهود وتشتت الطاقاتان من أولوياتنا في العمل الايجابي.. هو تضافر الجهود وجمع الكفاءات للوقوف والتصدي لمخططات الاعداء ومؤامراتهم والتي أخذت اشكالا متعددة للتأثير على عقل المسلم وفكره، ومن أخطر آليات التأثير لدى الغرب هو الاعلام والغزو الثقافي، فقد غزينا في عقر دورنا وسحب البساط من تحت أقدامنا من خلال الافلام والمسلسلات، وبرامج الاغراء الرامية الى المتاجرة بالغرائز والشهوات، والهادفة الى سلب هويتنا وانتزاع أصالتنا.
ان طوفان الخطر الذي يلاحقنا..يدعونا أن نفكر جدياً في ايجاد آليات تؤهلنا للصمود أمام المخاطر والتحديات، فخيارنا الذي لابد منه.. هو نشر ثقافتنا الاسلامية بكل أبعادها وجوانبها المشرقة، باسلوب يبتغي العقل والحكمة والموضوعية، قال تعالى
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[6] ،وأيضا تحصين الأجيال اللاحقة بالفكر الاسلامي المعتدل الذي يصونهم من المخاطر ويحفظهم من الانزلاق في مهاوي ألأذى، ويحول بينهم وبين الارتماء في دوائر الانحراف.
ان الطموح يحدونا لأن نصنع قوتنا بأنفسنا، لتكون الركيزة المتينة والقاعدة الصلبة لفاعليتنا، واننا ندرك أنّ قوة الامم والمجتمعات تكمن في تعدد الكفاءات وتنوع القدرات في كافة التخصصات الحياتية والميدانية، وهي التي تسهم في عملية الانهاض والبناء الاجتماعي، كما أنّ قوتها تستوجب احترامها وتقديرها لدى سائر القوى وأن تكون بمنأى عن الابعاد والتهميش.
بيد أن وجود أزمة داخلية تنبثق من أوساط الأمة كأزمة الثقافة الصدامية كفيلة بأن تحدث شرخا في الجسد الاسلامي وتصدّعا في الكيان الاجتماعي، كما انهّا تسبب ارباكا يهدد أمن المجتمع بلا استثناء، فتسودالفوضى، وتتجه التيارات الناشطة في بعد الاصلاح الاجتماعي لاثبات وجودها بعد تعرضها لحملات التخوين والتجريم والتكفير.. وحينئذ تتراجع المسيرة البنّاءة الرامية الى تجذير معالم الخير في بقاع الارض.. وتضغف الطاقات وتخبو القدرات، وتصبح الامة في دوامة الصراع الداخلي وبالتالي تنشغل عن اهدافها لتشتغل بخطرها الداخلي.
[1] [2] سورة الحجرات - الآية 11،12
[3] سورة ص - الآية 76
[4] [5] [6] سورة النحل - الآية 125