حيات الامام الخميني(قدس)
وفي اليوم التالي، أعلن خبر إلغاء لائحة مجلس الاقاليم والمدن في صحف النظام، واحتفلت الجماهير بأول نصر كبير تحقق لها بعد نهضة تأميم صناعة النفط.
وفي حديث له ـ حيث يعيش الشعب افراحه هذه ـ قال الإمام الخميني: "الهزيمة الظاهرية ليست مهمة، المهم هو الهزيمة الروحية. وإن المرتبط بالله لا يهزم، بل الهزيمة لاولئك الذين تمثل الدنيا غاية آمالهم… فالله لا يهزم. ولا تهنوا ولا تحزنوا… خلال الشهرين الماضيين اضطرتني الاحداث إلى الاكتفاء بساعتين من النوم يومياً… ومرة أخرى إذ رأينا أنّ شيطاناً من الخارج استهدف بلادنا، فنحن كما نحن والدولة كما هي… النصيحة من الواجبات… فعلى العلماء ان ينصحوا الجميع، بدءً من الملك وحتى آخر فرد في البلاد…".
وهكذا كانت حادثة لائحة مجالس الاقاليم والمدن تجربة ناجحة وهامة للشعب الايراني، خاصة وقد تعرف من خلالها على شخصية تؤهلها سجاياها لقيادة الامة الإسلامية.
ورغم هزيمة الملك في حادثة مجالس الاقاليم والمدن، إلاّ ان أميركا واصل الضغط عليه لتنفيذ الاصلاحات التي كانت تخطط لها. وفي مطلع عام 1963م أعلن الملك عن مبادئه الاصلاحية الستة وطالب اجراء استفتاء عام بشأنها. فاعلنت الاحزاب القومية عن موافقتها من خلال رفعها لشعار "نعم للاصلاحات، لا للاستبداد" كما أنّ الشيوعيين أيضاً ـ وانطلاقاً من رؤيتهم بأن الاصلاحات الملكية ستسرع من مسير ديالتيكية النظام الاقطاعي نحو النظام الصناعي والرأسمالي ـ أعلنوا عن موقفهم المنسجم مع الموقف الذي اعلنته اذاعة موسكو، واعتبروا اسس الثورة البيضاء اسساً تقدمية وهم انفسهم الذين نعتوا نهضة الخامس من حزيران بأنها حركة رجعية استهدفت الدفاع عن الاقطاعيين.
ومرة اخرى دعا الإمام الخميني المراجع والعلماء الاعلام في قم لدراسة الموقف والنهوض ثانية. لكنّ اولئك الذين كانوا يرون المرجعية الدينية منحصرة في مباشرة الامور الدينية للناس لا تحمّل المسؤولية في مواجهة المصائب والنوازل التي تحلّ بالامة الإسلامية، لم يرق لهم امر النهوض. ورغم أنّ اهداف النظام الملكي غير المعلنة من وراء ذلك الاستفتاء وتلك الاصلاحات كانت واضحة لشخص الإمام، وان المواجهة أمر لابدّ منه، إلا أنّ اجتماع العلماء قرر بالاجماع فتح باب الحوار مع الشاه واستكشاف نوياه.
كانت الرسائل المتبادلة بين الطرفين (الشاه والعلماء) ترسل بواسطة مبعوثي الطرفين للتفاوض، وفي عدة مراحل مكوكية. وفي لقاء لآية الله كمال وند، هدد الملك بأنّ الاصلاحات سيتم تنفيذها باي ثمن ولو كان بسفك الدماء وتخريب المساجد!
في الاجتماع اللاحق للعلماء الاعلام بقم، طالب الإمام بتحريم المشاركة في الاستفتاء العام الذي طرحه الملك، لكنّ الجناح المحافظ الذي كان حاضراً في الاجتماع، عدّ المواجهة في تلك الظروف بمثابة "نطح الصخرة" واعتبرها امراً عديم الجدوى. واخيراً ونتيجة لاصرار الإمام الخميني وثباته على موقفه، تقرر ان يقوم المراجع والعلماء بمعارضة الاستفتاء علناً وتحريم المشاركة فيه. وفي الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1962م اصدر الإمام بياناً شديد اللهجة، ادى انتشاره إلى تعطيل البازار المركزي بطهران، وخروج الجماهير في تظاهرات معارضة ردّ عليها رجال الشرطة. ومع اقتراب موعد الاستفتاء المفروض، اتخذت المعارضة الشعبية ابعاداً جديدة. مما اضطر الشاه ـ ولاجل التخفيف من حدّة المعارضة ـ إلى السفر إلى قم.
كان الإمام الخميني يعارض بشدة فكرة خروج العلماء لاستقبال الشاه، بل وحرّم الخروج من المنازل والمدارس يوم وصوله إلى قم. وكان تأثير هذا التحريم كبيراً إلى درجة جعلت المتولي لحرم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم (ع)، الذي يعتبر اهم منصب حكومي في المدينة، يمتنع عن الخروج لاستقبال الشاه، الامر الذي ادى إلى عزله عن منصبه.
ولدى وصوله عبّر الشاه عن سخطه على علماء الدين والجماهير بأشد العبارات سقوطاً وفظاظة، عبر خطابه الذي ألقاه في جمع من الموظفين الحكوميين وعملاء النظام الذين اصطحبهم معه من طهران.
وبعد يومين من زيارة الملك لمدينة قم، اجري الاستفتاء في وضع مؤسف، إذ لم يشارك فيه غير عناصر النظام وأزلامه. وقد سعى النظام من خلال وسائل اعلامه التي كانت تكرر اذاعة برقيات التهنئة التي بعث بها المسؤولون الأميركان والدول الاوروبية، إلى اخفاء فضيحته الناجمة عن اعراض الجماهير عن المشاركة في الاستفتاء.
واصل الإمام الخميني فضح النظام واغراضه ونواياه من خلال الخطابات والبيانات، فكان ضمن ما اصدره بيان حازم ومستدل عرف فيما بعد بـ "بيان التسعة"، استعرض فيه مخالفات الملك وحكومته للدستور، وتوقع فيه ان تؤدي الاصلاحات الملكية إلى تدهور الزراعة وضياع استقلال البلاد، ورواج الفساد والفحشاء كنتائج قطعية مسلّمة.
واستجابة لاقتراح الإمام الخميني، تم تحريم الاحتفال بعيد النوروز لعام 1342 (21 آذار 1963م) اعتراضاً على ممارسات النظام. وقد أطلق الإمام الخميني في بيانه الذي اصدره بهذا الخصوص عبارة "الثورة السوداء" على ما سُميّ بـ "الثورة البيضاء"، كما أنّه فضح انصياع الملك للمخططات الأميركية الإسرائيلية، وكان سماحته قد اعلن في هذا البيان: "وإني لا أرى حلاًّ أن يصار إلى اقالة هذه الحكومة المستبدة بجريرة مخالفة أحكام الإسلام وانتهاك الدستور، وتشكيل حكومة ترتكز إلى أحكام الإسلام وتعي معاناة الشعب الايراني. اللهم لقد أدّيت واجبي ـ اللهم قد بلّغت ـ وإذا مُدَّ في عمري فإني سأواصل أداء تكليفي باذن الله".
ان ادراك اهمية هذا الكلام لا يتسنى إلاّ لاولئك المطلعين على السجون الرهيبة والاضطهاد الذي كان سائداً في تلك الايام، إذ كان اقل انتقاد يقود إلى السجن والتعذيب والنفي.
من جانب آخر فإن الشاه الذي كان قد طمأن واشنطن باعداد المجتمع الإيراني لتقبل الإصلاحات الأميركية واطلق على اصلاحاته اسم "الثورة البيضاء"، رأى ان معارضة العلماء له ستكلفه ثمناً باهظاً، لذا شرعت اجهزة الاعلام بشن حملة واسعة ضد العلماء والإمام الخميني وقرر الملك سحق النهضة.
وفي الثاني من فروردين 1342ش (22 آذار 1963م) ـ الذي صادف ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق (ع) ـ هاجم ازلام النظام المسلحين، متنكرين بملابس مدنية، تجمع طلاب العلوم الدينية في المدرسة الفيضية، ثم قامت قوات الشرطة بالهجوم على المدرسة الفيضية مستخدمين اسلحتهم النارية فقتلوا وجرحوا الكثيرين من الطلاب. وفي الوقت ذاته تعرضت المدرسة الطالبية في تبريز لهجوم مماثل. وفي غضون تلك الاحداث كان منزل الإمام الخميني يستقبل كل يوم مجاميع كثيرة من الثوريين والجماهير الغاضبة التي كانت تأتي للتعبير عن تضامنها وتعزيتها ودعمها للعلماء وللاطلاع على آثار جريمة النظام في قم.
وكان الإمام الخميني يحمّل الملك شخصياً وبصراحة ـ اثناء خطاباته في الجماهير ـ المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم وعن التحالف مع إسرائيل، ويحثّ الجماهير على القيام. وفي خطابه الذي ألقاه في الأول من نيسان عام 1963م انتقد بشدة سكوت علماء قم والنجف وسائر البلاد الإسلامية ازاء جرائم الملك الاخيرة، قائلاً: "ان السكوت اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبر".
وفي اليوم التالي أي في الثاني من نيسان عام 1963م اصدر الإمام بيانه المعروف تحت عنوان "محبة الملك تعني النهب". وقد وضع الإمام في بيانه هذا ـ الذي يعدّ من اشد بياناته السياسية لهجة ـ الملك في قفص الاتهام وأكّد في خاتمة بيانه ان التقية في مثل هذه الظروف حرام، وان اظهار الحقائق واجب (ولو بلغ ما بلغ). وخاطب الإمام الخميني في بيانه هذا الشاه وازلامه قائلاً: "لقد أعددت اليوم قلبي لتلقي طعنات حراب ازلامك، ولكني غير مستعد لقبول الظلم ولن ارضى بالخضوع إمام تجبر النظام".
كان الإمام الخميني قد اختار طريقه بوعي. ولديه الآن حصيلة غنية من التجارب السياسية والمواقف الجهادية الحلوة والمرّة. ويرى أنّ بانتظاره وقائع خطيرة وان إمامه طريقاً محفوفاً بالمخاطر. غير انه لا يتحرك بوحي من الماضي أو المستقبل. انه يفكر دوماً بأداء الواجب الشرعي رافعاً شعار "العمل بالتكليف ولو بلغ ما بلغ".
ان معنى "الهزيمة والنصر" في منطق الإمام الخميني غير ذلك الذي اعتاد عليه السياسيون المحترفون. فهو خلافاً لكثير من المناضلين المشهورين والقادة والاعلام من سياسي العالم، الذين يدخلون أولاً الميدان السياسي بأيّ وسيلة ودافع، ثم يحرصون على مظهرهم السياسي ودورهم وتتشكل شخصيتهم وسط ذلك الميدان المضطرب ـ دخل الميدان السياسي ومارس دوره القيادي للثورة الإسلامية في عام 1963م بعد أن قطع شوطاً كبيراً في مسيرة التهذيب وكسب الفضائل المعنوية والمعارف الحقيقية بسطوحها العالية، ومارس الجهاد الاكبر لسنوات طويلة. فالإمام كان يعتقد بأنّ بناء النفس والجهاد الذاتي مقدم على الجهاد الخارجي، حتى إنّه كان يقول دوماً بأنّ العلوم المختلفة ـ بما في ذلك علم التوحيد ـ إذا لم تقترن بتهذيب النفس فإنّها لن تكون سوى حجاب ولن تقود إلى الحقيقة.
ان العبارات الحادة التي ضمنها الإمام بيانه الصادر في 2 نيسان 1963م واشباهها التي وسمت الكثير من تراثه السياسي، لم تكن مناورة سياسية لاخراج مناوئيه من الساحة، بل انها كانت عرضاً لحقائق تنبع من اعماق وجود شخصية ترى أنّ العالم محضر الله. فالإمام لم يكن يكنّ لاحد من خصومه من امثال محمد رضا أو صدام أو كارتر أو ريغان وغيرهم ممن وقفوا بوجهه خلال جهاده، حقداً أو عداءً شخصياً. كان سماحته حريصاً على إنقاذ المجتمع البشري من سلطة اتباع الشيطان وإعادة البشرية إلى هويتها الفطرية الالهية ـ الرحمانية وكان ينظر إلى الصراع من هذا المنظار، وقد حرص على الاعتقاد والعمل بهذه المبادئ قبل ان يدعو غيره إليها.
وللوقوف على سرّ موفقية الإمام الخميني ينبغي البحث في مجاهدته الطويلة لنفسه وسعيه لبلوغ المعرفة الشهودية الحقيقية. فلا يمكن درك دوافع الإمام الخميني واهدافه من نضاله السياسي دون التأمل في مراحل تكامل شخصيته الروحية والمعنوية والعلمية.
لقد رأى العالم الكثير من العناصر التي ميّزت جهاده وثورته، إلاّ أنّ ما يميز نضال الإمام الخميني وما يميز ثورته عن سائر الثورات، ويجعلها متصلة بثورات الأنبياء، هو أنّ الشخصية التي فجرت الثورة الإسلامية في القرن العشرين، وحسب ما يروي رفقاء دربه، لم تترك طوال فترة ما قبل النهضة حتى انطلاقاتها ومن ذلك الوقت حتى رحيله عن الدنيا، نافلة صلاة الليل والتهجد ليله واحدة، ناهيك عن الفرائض والواجبات. إنّه ذلك الرجل الذي جلس يردّ على اسئلة العشرات من الصحفيين والمصورين الذين اجتمعوا من انحاء العالم في آخر لقاء صحفي له في محل اقامته في (نوفل لوشاتو) وما ان مرت بضع دقائق وحان موعد الصلاة، حتى قام ليؤدي صلاته غير مكترث لذلك الجمع.
وللوقوف على سرّ التأثير المميّز لبيانات الإمام وكلامه في الاستحواذ على مخاطبيه إلى الحدّ الذي يدفعه إلى التضحية بارواحهم، ينبغي البحث في أصالة فكره، والحزم في الرأي والصدق الخالص معهم.
ان من اهم المزايا التي وسمت نهضة الإمام الخميني: للوقوف بوجه التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية والخيانات التي يرتكبها الملك.
وفي الثالث من نيسان 1963م، أبرق آية الله العظمى الحكيم من النجف إلى العديد من العلماء والمراجع في إيران يطالبهم بالهجرة الجماعية إلى النجف الاشرف. كان هذا الاقتراح يهدف إلى الحفاظ على حياة العلماء وكيان الحوزات العلمية، وقد عبّر النظام الملكي ـ وعبر العديد من الممارسات ـ عن غضبه واستنكاره لدعم علماء النجف وكربلاء وآية الله الحكيم لنهضة العلماء في إيران. ومن اجل خلق جوٍ من الرعب والحؤول بين العلماء والاجابة على برقية آية الله الحكيم، بادر نظام الشاه إلى ارسال افواج من قوات الامن الداخلي إلى مدينة قم، كما ارسل في الوقت ذاته وفداً رسمياً أخذ على عاتقه نقل رسالة التهديد الملكية إلى مراجع التقليد.
امتنع الإمام الخميني عن استقبال هذا الوفد. وقد اشار سماحته إلى هذه القضية في خطابه الذي القاه في 2/ 5/ 1963 مشيراً إلى الملك بكلمة "التافه" إذ قال": "إن هذا التافه، رأس هذه الحكومة الخبيثة، أرسل رئيس الشرطة إلى منازل المراجع ـ طبعاً انا لم استقبلهم، وليتني فعلت، ليتني يومها سمحت لهم بدخول المنزل ثم هشمت اسنانهم! ـ ليبلغوهم: ان الشاه قد أمرنا إذا ما نطق احدكم بشيء بأن نقوم بارسال من يهدم بيوتكم ويقتلكم ويهتك اعراضكم".
ابرق الإمام الخميني برسالة جوابية إلى سماحة آية الله العظمى الحكيم، غير عابئ بتلك التهديدات، أكد فيها ان الهجرة الجماعية من قبل العلماء وإخلاء مواقعهم في الحوزة العلمية بقم يتعارض مع المصلحة الإسلامية. كتب الإمام في جانب من هذه البرقية يقول: "سوف نؤدي تكليفنا الالهي ان شاء الله وسوف نوفّق لإحدى الحسنيين: إما قطع ايدي الخونة عن الإسلام والقرآن الكريم، أو مجاورة رحمة"