العمارة الإسلامية .. آيات في الفن والإبداعنضير الخزرجي - 01/10/2007م - 10:57 ص
وما يميز عموم المراقد عن المساجد: "أن المساجد لم يدخلها الكثير من الفنون والزخرفة كما في المراقد حيث يجب ان تتسم المساجد بالبساطة والتجرد وعدم الكلفة"، ويمكن القول بالفم المليان: "لقد حفظ المسجد والمرقد ملف تطور العمارة الإسلامية على مر العصور وكان شاهدا حيا وسفرا خالدا ينطق بمراحل التطور العمراني والحضاري للمدن الإسلامية"، كما يعكس جمال الزخرفة المستعملة في العمارة الإسلامية،
العمارة الإسلامية .. آيات في الفن والإبداع
تأخذ المدينة شكلها وقيمتها حالما يتم تمصيرها وتأهيلها للسكن، وتكون هناك من العوامل المساعدة ما يجعلها قابلة للتمدد والتوسع جغرافيا وسكانيا، وتصبح محط أنظار الآخرين. وفي معظم الأحيان فان المدينة تأخذ شهرتها من حدث وقع فيها أو شخصية مرموقة كانت فيها مسقط رأسها، أو حلّت فيها أو مرّت منها أو فيها دفنت، أي ان المدينة مشهورة بلحاظ عوامل وظروف أخرى قد تكون أصيلة أو طارئة.
وفي المدن ذات الشأن الديني، فان المكان يلبس رداء القداسة بلحاظ المكين قديسا بشرا أو مقدسا أثرا، أي وجود ملازمة حقيقية بين المكان والمكين، يكون للمكين قوة الجذب الفعالة، كانجذاب الأرض للشمس ودورانها حولها. وفي معظم الحالات فان المدينة تكون مقدسة بوجود مرقد لقديس من القديسين، أو مقام لولي من أولياء الصالحين، تنجذب إليه الناس وتستظل بفيئه وتحط على أعتاب مرقده أو مقامه رحال العناء والتعب اليومي، تنفض عنده همومها وتبثها شكواها متشفعة بالمكين الى الله ومتوسلة به، لأن المكين قدم لله كل شيء فأعطاه الله كرامة الوسيلة، قال تعالى: (
وابتغوا إليه الوسيلة)
[[sup][1][/sup]. ولا يخلو دين على وجه البسيطة من مكين أبدا، قلّ أتباعه أو كثروا، اتصل بحبل ممدود الى السماء أو انقطع عن السماء وضرب أوتاده في الأرض، لان سنة الأرض قائمة على مكوكي المكان والمكين.
وفي الساحة الإسلامية، فان مدناً غير قليلة أخذت شهرتها وقدسيتها من مرقد لقديس أو مقام لولي أو أثر لواقعة أو مَعلم تركته الخوالي من الأيام، فصار شاهدا على التاريخ، والأمة المتحضرة هي التي ترعى للمكين حرمته وقدسيته، وترعى ذمته بشرا أو حجرا، بوصفه إرثا مشاعا لكل البشرية يشد من لحمة المجتمع ويقوي أواصره ويذكره بأيام الله. وفي سبيل الإحاطة بما تركته النهضة الحسينية من آثار لا تبلى، فان واحدة من الأبواب الستين لدائرة المعارف الحسينية التي انبرى المحقق الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي في طرقها بحثا وتحقيقا وكتابة هو الخوض في تاريخ مراقد الأمام الحسين بن علي (ع) وأهل بيته وأصحابه في سلسلة من أكثر من عشرة مجلدات حملت عنوان "
تاريخ المراقد .. الحسين وأهل بيته وأنصاره" صدر الجزء الأول منها عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 424 صفحة من القطع الوزيري، تابع فيه المؤلف المراقد كلها وفق الحروف الأبجدية، والتحقيق بعيدا عن العاطفة الدينية في صحة انتساب المرقد لصاحبه، فينفي ويثبت صحة النسب حسب ما يهديه إليه شراع البحث.
مهد الشيخ الكرباسي لسلسلة تاريخ المراقد بمقدمة واسعة تناول فيها إشعاعات المراقد على الأمم والشعوب في المناحي كلها من دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية وغيرها، مع شرح كامل لكل مفردة من مفردات العمارة، وبخاصة العمارة الإسلامية، والتأثير المتبادل بين عمارات الحضارات الإنسانية.
وأول ما يلفت النظر هو الفرق بين "
المرقد والمقام" فصحيح ان كلا منهما يدل على الآخر و"
تنوب إحداهما عن الأخرى على سبيل المجاز"، بيد أن المرقد إشارة الى رقود الميت في لحده، فيشار الى القبر بالمرقد، ويطلق عادة على مراقد المعصومين والأولياء والصالحين، وأما المقام فهو مكان المكوث والإقامة ويطلق عادة على "
أماكن تواجد الأنبياء والأئمة والأولياء". وتعج المدن الإسلامية في طول البلاد وعرضها بالمراقد والمقامات، ومنها مرقد الإمام الحسين (ع) ومن استشهد معه أو مَن صاحبه في كربلاء المقدسة، فضلا عن المقامات المتعلقة بالنهضة الحسينية، ويقع تعظيم المراقد والمقامات في طول تعظيم الله وحده لا شريك له: "
فلو لم يحمل أصحابها صفة العبودية المطلقة لله لما قدّسهم المسلمون، فالقدسية إنما جاءت للعبودية الخالصة لله جل وعلا".
المراقد .. أدوار متنوعة :ـ
وقد ثبت بالمعايشة اليومية أن مراقد الأولياء ليست محل جذب للمؤمنين فحسب، بل هي محل إشعاع على الشعوب كلها، في كل أدوارها ومراحل تاريخها، فعلى المستوى السياسي لا يمكن إغفال دور المراقد في تحميس الشعوب بالضد من الظالم والمعتدي والمحتل، وإلا لما عملت الحكومات الظالمة على طمس معالم المراقد أو محاولة بعض الحكومات ظالمة أو غير ظالمة على الاهتمام بالمراقد لكسب عواطف الناس والتقرب منها أو عبر التقرب ممن توليه احترامها وتقدسه، وفي هذا المجال يشار الى أن السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني (
1566م) ترجل من مسافة بعيدة عند زيارته للإمام علي (ع) في النجف الأشرف ونجله الإمام الحسين (ع) في كربلاء المقدسة، وعندما تساقطت أنظاره على القبة الذهبية ارتعشت أعضاء بدنه، وانشد، من الطويل:
تزاحم تيجان الملوك ببابه ** ويكثر عند الإستلام إزدحامها
إذ ما رأته من بعيد ترجلت ** وإن هي لم تفعل ترجل هامها
وبشكل عام فان: "
ملوك ورؤساء وأمراء العالم وشخصياته البارزة كانوا لدى زيارتهم للعراق يقصدون زيارة الإمام الحسين (ع) ليثبتوا لشعوبهم ومريديهم ولاءهم لصاحب القبر وليبرهنوا بأنهم على خطاه وخطى جده (ص) وأبيه (ع) علّ ذلك ينفعهم للبقاء أو الوصول الى الحكم"، على أنه ما من إنسان أساء الى مرقد الإمام الحسين (ع) والمدينة المقدسة، رجل سياسة كان أو رجل دين أو رجل مجتمع، إلا وعاد سهم إساءته الى نحره، بل: "
ومما يتناقله أبناء هذه المدينة المقدسة انه ما من ظالم أو متجبر من الملوك والرؤساء زار المرقد زيارة رسمية وعلنية أيام حكمه إلا وهلك أو أزيح عن سدة الحكم ولو بعد حين"، وهذه حقيقة شاهدت أشخاصها في شوارع كربلاء المقدسة ولمست نتائجها فيما بعد، منهم الرئيس العراقي المعدوم صدام حسين (
ت 2006م)، والرئيس السوداني السابق جعفر النميري، وزوجة إمبراطور ايران المخلوع محمد رضا پهلوي (
ت 1980م) شاهبانو فرح ديبا، وغيرهم، والسنّة جارية حتى فيمن يزعم الإنتساب للمدينة أو الولاء لأهل البيت (ع)، وهو في فعاله أشد إيلاما من المبغض القال.
ويمكن في العراق السياسي المعاصر ملاحظة ان ثورة العشرين بالضد من الاستعمار البريطاني انطلقت في النصف من شعبان عام 1920م من مدينة كربلاء المقدسة، وتكرر الأمر في انتفاضة الشعب العراقي في شعبان العام 1991م بالضد من نظام صدام حسين البائد، فالمراقد المقدسة ليست مجرد أماكن للزيارة والعبادة، فهي محل استلهام للثوار.
والى جانب الدور السياسي للمراقد المقدسة، فان لها خاصية قد لا تتحقق في غيرها، وفي مقدمة ذلك أنها عامل جذب لأبناء الشعوب الإسلامية المختلفة، وبالتالي لها الدور الفعال في ترسيخ العلاقات بين الشعوب، ومن خلال مشاهداتي في مدينة سامراء خلال زيارة لها في العام 2004، التقى بي احد أبنائها من الباعة وظن بي أني من الزائرين القادمين من إيران فراح يتحدث معي بفارسية ضعيفة، فسايرته في حديثه باللغة نفسها، ثم سألته عمن تعلم اللغة الفارسية في مدينة لا تسكنها عائلة يجيد أهلها اللغة الفارسية، فقال إنه تعلمها من خلال احتكاكه بالزائرين الإيرانيين، والبعض في المدن المقدسة يجيد التعامل بأكثر من لغة أجنبية.
ولا يخفى ما للمراقد المقدسة من دور كبير في المجال الثقافي، بوصفها مركز استقطاب لطلبة العلوم، فضلا عن الاحتكاك بثقافات مختلفة نتيجة لحركة الزائرين المليونية كل عام من داخل العراق وخارجها، وبخاصة في كربلاء المقدسة التي تشهد كل عام نحو عشر زيارات كبيرة، حيث تعتبر المدينة حاضرة علمية ارتادها العلماء منذ ان حل في تربتها الحسين (ع) شهيدا، بل ان أول مدرسة متكاملة اقيمت في العراق كان في مدينة كربلاء المقدسة عام 369 بناها السلطان البويهي عضد الدولة فناخسرو الديلمي (ت 372 هـ)، كما: "
يعد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان العصر الذهبي لمدينة الحسين (ع) من بين القرون من الناحية العلمية والفكرية، ولم تقتصر النهضة العلمية في هذه الجامعة على علوم الفقه والحديث والأصول بل شملت العلوم العقلية والنقلية كافة، الإسلامية منها والعربية الى جانب علوم الطبيعة والفلك والطب وغيرها، وكان للمرأة دور بارز في تداول العلوم الإسلامية والعربية حيث ارتقت الى مصاف العلماء الأعلام وحاز عدد منهن مكانة علمية سامية".
كما لا يختلف اثنان على ما للمراقد الشريفة من دور ديني وأخلاقي واجتماعي وتأثير إيجابي على المدينة ومن يلوذ بها من سكانها والزائرين، وكلما كانت المدينة هادئة انعكست على المدن الأخرى ايجابيا، ومثل هذا الهدوء والسلام أرضية خصبة للنشاط الاجتماعي والاقتصادي كون: "
انتشار هذه المراقد عامل استقرار في حقل الاتفاقات التجارية والمعاهدات القبلية ويخلق جوا من الثقة المتبادلة في حقل العلاقات الاجتماعية". ويتعزز دور المراقد في مجال الاقتصاد محليا وقطريا وعالميا، فحركة السياحة الدينية نحو المدن المقدسة يحرك من عجلة الاقتصاد على كل المستويات ويرفد الميزانية القومية بعملات صعبة تنهض بعمران البلاد.
ملف العمارة الإسلامية :ـ
والى جانب قدسية المكين وكرامته، فان المكان الذي يضمه والمرقد الذي يحويه يعتبر: "
تحف فنية رائعة وآثار قديمة ونفيسة تعتز بها الأمم والشعوب وتعتبرها ثروة وطنية وإنسانية تخص عموم البشرية ويجب المحافظة عليها لما تحتويه من فن معماري رائع ورصيد تاريخي وروحي وديني زاخر"، وتعتبر عمارة المرقد الحسيني الشريف بخاصة ومراقد رجالات الإسلام بعامة آية من آيات الفن المعماري حيث تضم الريازة الزجاجية والكاشي الفسيفساء والتخاريم الخشبية والصياغة الرائعة للفضة والذهب والنحاس المستخدم، الى جانب المرمر المستعمل في بلاطات المراقد وجبهاتها.
وفي كربلاء المقدسة فإن تاريخ ازدهار المباني وتزويقها يبدأ مع طليعة الحكم البويهي منذ العام 367 هـ، وازداد الاهتمام بها في العهد الصفوي منذ العام 914 هـ. وما يميز عموم المراقد عن المساجد: "
أن المساجد لم يدخلها الكثير من الفنون والزخرفة كما في المراقد حيث يجب ان تتسم المساجد بالبساطة والتجرد وعدم الكلفة"، ويمكن القول بالفم المليان: "
لقد حفظ المسجد والمرقد ملف تطور العمارة الإسلامية على مر العصور وكان شاهدا حيا وسفرا خالدا ينطق بمراحل التطور العمراني والحضاري للمدن الإسلامية"، كما يعكس جمال الزخرفة المستعملة في العمارة الإسلامية، التي كانت بداياتها في عهد الخلافة الراشدة، حيث: "
يذكر إن أول من أدخل الزخرفة في المسجد هو عثمان بن عفان (ت 35 هـ)"، وسار على منواله معاوية بن أبي سفيان (
ت 60 هـ)، على أن: "
أول من أدخل القناديل المعدنية الى مسجد الرسول هو تميم الدارمي (ت 40 هـ) وذلك في عهد الرسول نفسه حيث حمل قنديلا من الشام وعلقه في المسجد فلما غربت الشمس دخل الرسول (ص) فإذا هو بها تزهر، فقال (ص) من فعل هذا؟ قالوا: تميم الدارمي، فقال (ص): نورت الإسلام وحليت مسجده، نوّر الله عليك في الدنيا والآخرة"، كما ان المراقد لم يشملها النهي الخاص بزخرفة المساجد، ولذلك: "
زينت بالمرايا والقاشاني والفسيفساء وبالنقوش والتوريقات والخطوط الجملة".
يتبع